04 - 06 - 2025

حين خرجت الكنيسة من مصر ولم تخرج مصر منها | الشتات القبطي

حين خرجت الكنيسة من مصر ولم تخرج مصر منها | الشتات القبطي

كمال زاخر: الكنيسة القبطية في المهجر بين ضغوط الغرب وصراعات الهوية والأجيال.. والمستقبل مرهون بالتغيير وتفهم القيادة لتحولات الخارج

في صباح أحد بارد في مدينة تورونتو الكندية، يعلو صوت التسبيحة القبطية في كنيسة "القديس مرقس". المصلون يردّدون: "تين أويك"، بينما الأطفال يجلسون بصبر، بعضهم لا يفهم كلمة واحدة من اللغة القبطية أو العربية. أحد الخدام يهمس بلطف لصبي في السابعة بالإنجليزية، يشرح له ما يقوله الكاهن. هذه اللحظة تختصر تحوّلًا هائلًا تمر به الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، منذ أن بدأت في الخروج من مصر، قبل أكثر من نصف قرن.

الكنيسة التي وُلدت في الإسكندرية، وأصبحت تُعرف بـ"كنيسة الشهداء"، تخوض اليوم تجربة وجود غير مسبوقة في تاريخها. مئات الكنائس المنتشرة في كندا، الولايات المتحدة، أستراليا، وأوروبا الغربية، تخدم ملايين الأقباط الذين غادروا مصر، حاملين معهم طقوسهم، وصلواتهم، وحنينهم.

الهجرة تصنع كنيسة جديدة

بدأت الهجرة القبطية بوتيرة متسارعة، منذ السبعينات، مدفوعة بأسباب سياسية، واقتصادية، وأحيانًا أمنية. مع كل موجة، كانت الكنيسة تتبع أبناءها، ترسل الكهنة، وتبني الكنائس. واليوم، بحسب تقديرات غير رسمية، هناك أكثر من 600 كنيسة قبطية في المهجر.

لكن بناء الكنائس لم يكن مجرد مدّ طوب وأسقف؛ بل كان إعادة زرع جذور دينية وثقافية، في أرض مختلفة تمامًا. في المهجر، لم تعد الكنيسة فقط ملجأً روحيًا؛ بل صارت أيضًا مركزًا اجتماعيًا، تعليميًا، ونفسيًا.

الآباء يحملون مصر والأبناء يصنعون هوية جديدة

داخل هذه الكنائس، تعيش الأجيال على توازن دقيق. الجيل الأول من المهاجرين، يرى في الكنيسة حضن الوطن، واللغة، والذكريات. أما الجيل الثاني والثالث، فله عينان على العالم الجديد، وهُوية متأرجحة بين "أنا مصري" و"أنا كندي" أو "أمريكي".

يقول "مينا"، شاب قبطي يعيش في مونتريال: "بحب الكنيسة، لكن أوقات بحس إنها مش فاهماني. هم بيكلموني بلغة، وأنا بفكر بلغة تانية". كثير من الشباب يشعرون أن العظات التقليدية لا تمس واقعهم، وأن الكنيسة تركز على الشكل والطقس أكثر من الجوهر.

النتيجة.. البعض يبتعد، والبعض ينتقل إلى كنائس أخرى أكثر انفتاحًا. لكن في المقابل، هناك محاولات جادة من بعض الكهنة والخدام، لفهم هذا الجيل، بلغة جديدة، وتواصل أعمق.

وعلق المفكر القبطي ومؤسس التيار العلماني داخل الكنيسة، كمال زاخر، "إن الفضل في تأسيس الكنائس القبطية بالخارج يعود إلى البابا كيرلس السادس، والأنبا صموئيل، أسقف الخدمات العامة الذي استُشهد في حادث المنصة عام 1981. وأوضح أن الحاجة هي التي دفعت الكنيسة آنذاك إلى التوسع خارج مصر، خاصة بعد موجات الهجرة الأولى إلى الغرب، سواء قبل ثورة يوليو أو بعدها، حيث كانت الرغبة الأساسية هي مد مظلة الرعاية الروحية لأبناء الكنيسة الذين غادروا مصر، لكن تمسّكوا بعلاقتهم الروحية والتقليدية بالكنيسة القبطية".

ومع مرور الوقت، وظهور أجيال جديدة من أبناء المهاجرين، استمر التوسع الكنسي، لكن ظهرت تحديات من نوع آخر - بحسب زاخر – أبرزها: الوصول إلى الجيلين الثالث والرابع. وقال إن أبناء هذه الأجيال يعيشون في بيئة مختلفة، وثقافتهم وانتماؤهم باتا أقرب إلى الدول التي وُلدوا ونشأوا فيها. وتابع: "الجيل الثالث والرابع يحملان ثقافة البلد المقيم فيه، وانتماؤهما له يكون طبيعيًا، ما يفرض على الكنيسة مسؤوليات جديدة لم تكن مطروحة في الماضي".

وشدّد زاخر على ضرورة أن تغيّر الكنيسة من أدواتها في التعامل مع هؤلاء، قائلًا: "يجب أن تتغير معايير اختيار الأساقفة والكهنة في الخارج، بحيث تراعي الثقافة المحلية، واللغة، والقدرة على التفاعل مع التحديات الفكرية والاجتماعية الجديدة، التي تجتاح المجتمعات الغربية". وأضاف: "ينبغي كذلك إعداد خدام من أبناء هذه الأجيال، ذوي الأصول المصرية، وهو ما أعتقد أن الكنيسة بدأت بالفعل في تنفيذه، من خلال افتتاح أديرة مصرية بالخارج؛ ما يتيح انخراط المقيمين في الحياة الرهبانية، والخدمة الكنسية".

وتطرق زاخر إلى قضية مزدوجي الجنسية من رجال الإكليروس، وقال إنها ستطرح إشكالية مستقبلية، حيث سيكون هناك كهنة وأساقفة مصريون يحملون جنسيات أخرى، وبالتالي يصبح من حقهم، من الناحية النظرية، أن يشاركوا في كل المسؤوليات الكنسية؛ بما فيها: الترشح للبطريركية. وتساءل: "هل نتخيل في ظل الثقافة السائدة في مصر، وفي الشرق عمومًا، أن يُختار بطريرك من الأقباط الفرنسيين أو الأمريكيين؟ هذا ما حدث بالفعل في الكنيسة الكاثوليكية، لكنه لا يزال غير مقبول في سياقنا القبطي حتى الآن".

وحول تجديد الخطاب الكنسي، قال زاخر: "إن الكنائس في الخارج لا تصلي باللغة العربية، وهذا أمر طبيعي، ولا يجب أن يُنظر إليه باعتباره انحرافًا". وأضاف: "الكنيسة بحاجة إلى تغيير في الشكل واللغة والطَرح؛ لتظل قريبة من الشباب. العلاقة بين الكهنة والعلمانيين في الغرب مختلفة كليًا عنها في مصر، حيث نحن محكومون بتراث طويل يفرض أنماطًا تقليدية، لم تعد صالحة في السياق الجديد".

وأشار إلى أن الخلاف في وجهات النظر بين الكنيسة الأم في مصر، وأساقفة المهجر، وارد بطبيعته، لكنه لا يزال محدودًا؛ لأن الغالبية العظمى من الأساقفة في الخارج هم من أصل مصري، باستثناء اثنين تقريبًا في فرنسا من أصول فرنسية. وقال: "حتى الآن، المشاكل التي تحدث في الداخل تتكرر بشكل شبه متطابق في الخارج، لكن الأمر سيتغير مع تطور الثقافة والوعي؛ لأنه حتى داخل مصر نفسها، الأجيال المختلفة باتت تعيش فجوات ثقافية وفكرية متسعة. وإذا لم نتطور، سنحكم على أنفسنا بالفناء".

وعن مسألة استقلال الكنائس في الخارج، قال زاخر إن هذا الاستقلال نسبي، موضحًا أن الكنائس هناك تملك مساحة من الحركة في علاقاتها مع المجتمع المحلي، لكنها لا تملك حرية التغيير في العقيدة، أو الطقوس، أو النظام الكنسي؛ لأن هذه الأمور "محكومة" ولا تحتمل الاجتهاد.

وفي ما يخص القضايا الاجتماعية المعقدة التي تواجه الكنيسة في الخارج، مثل: المثلية الجنسية، والهجرة غير الشرعية، أوضح زاخر أن الكنيسة تتعامل معها بتوازن دقيق، قائلًا: "في الأمور السياسية، الكنيسة في الخارج تعمل لتحقيق مصلحتها ومصلحة أبنائها، أما في القضايا الأخلاقية، فهي تخضع بالكامل للمنظومة الإيمانية الأرثوذكسية، التي لا تتغير".

وأكد زاخر أن التأثير بين الكنيسة الأم والكنيسة في المهجر، ليس من طرف واحد؛ بل هو تبادل حيوي ومؤثر، وقال: "مصر نفسها كبلد تأثرت في مراحل كثيرة من تاريخها، بالاحتكاك مع الغرب، وفي كل مرة يحدث فيها هذا الاشتباك الثقافي، تظهر موجات من التنوير والتطوير داخل الكنيسة المصرية".

أما عن انفتاح الكنيسة على تغيير نظم التعليم الكنسي أو الطقوس، فرفض زاخر وصفها بالمنغلقة أو المنفتحة، مشيرًا إلى أن الأمر معقد، ويعتمد على طبيعة الأجيال الجديدة، وسرعة التحولات العالمية، وسهولة الوصول إلى المعلومات. وقال: "نحن أمام عالم يتحرك بسرعة، والمعلومة متاحة للجميع، وهذا يفرض على الكنيسة أن تكون أكثر وعيًا واستعدادًا للتغيير".

وفيما يتعلق بالصدامات التي قد تحدث بين الإيمان والمجتمع المحيط، أكد زاخر أن "المؤمن يظل مؤمنًا في أي مكان، لكن لا شك أن هناك حالات صدام تنشأ، وتُعالَج داخل الكنيسة بالحوار، والاجتماعات، والنقاش المفتوح، لا بالرفض القاطع".

واختتم زاخر حديثه بالتأكيد على أن الخوف من التغيير لا يزال قائمًا داخل الكنيسة، لكنه في الغالب خوف ناتج عن الفجوة بين الأجيال، قائلًا: "الأجيال القديمة ترى في أي تغيير تهديدًا ورفضًا للموروث، أما الأجيال الجديدة فتدخل في صراع بين القديم والحديث، لكنها في النهاية تتقبل الجديد، بشرط أن يأتي في إطار الإيمان والتقليد الأرثوذكسي".

هل تتغير الكنيسة؟ أم تتغرب؟

الكنيسة في المهجر أمام مفترق طرق: إما أن تتمسك بشكلها التقليدي وتخسر الأجيال الجديدة، أو أن تراجع نفسها، وتعيد تقديم إيمانها بشكل يناسب مناخًا جديدًا.

بعض الكنائس بدأت تقدم خدمات غير تقليدية؛ جلسات دعم نفسي، مشورات أسرية، استخدام مكثف للسوشيال ميديا، وحتى عظات بالإنجليزية بالكامل. في المقابل، هناك كنائس أخرى لا تزال ترفض أي تغيير، وترى في ذلك تهديدًا لـ"الإيمان المستقيم".

الواقع أن التحوّل حاصل، سواء اعترفت به الكنيسة أم لا. الأقباط في المهجر يعيشون تجربة دينية واجتماعية مختلفة، تُعيد تشكيل علاقتهم بالكنيسة، وربما بمفهوم الإيمان ذاته.

هل يعود التأثير إلى الداخل؟

سؤال مفتوح بدأ يتردد: هل يمكن لكنيسة المهجر أن تؤثر في كنيسة الوطن؟ هل تنتقل موجات التجديد والتحديث من الخارج إلى الداخل؟

في بعض الأحيان، يحدث العكس؛ يتم انتقاد بعض ممارسات كنائس المهجر داخل مصر، وتُتهم بأنها تُفرّط في التقاليد. لكن في الوقت نفسه، هناك إعجاب بقدرة هذه الكنائس على التنظيم، والإبداع في التواصل، ورعاية الشباب.

الكنيسة القبطية: بين الجغرافيا والروحانية

الكنيسة القبطية خرجت من مصر، لكنها لم تخرج من المصريين. هي تحاول أن تحتفظ بروحها، وهي تتنقل في جغرافيا وثقافات جديدة. ربما لا تزال تبحث عن توازن بين القداسة والواقعية، بين الوطن والمهجر، بين الماضي والمستقبل.

وتكتب الكنيسة فصلًا جديدًا من تاريخها، لا يقل أهمية عن فصول الشهداء والآباء الأولين.
----------------------------
تحقيق: مادونا شوقي
من المشهد الأسبوعية